كزورق..

Views: 376

د. جان توما

كزورق مع ما تبقّى من ركام العمر، يرتاح المرء على شاطئ زمنه بسكينة الأفق. صار الرمل الحارق مكان الرحيل، ومطرح أطلال الذكريات. هكذا الإنسان يتهاوى كرذاذ بعد أن كان موجًا هادرًا. لعلّ قوته في معرفته أنّه صريع الأشرعة، كالمرفوع على خشب الصواري، عيناه منارتان وجبينه مرسى المرافئ التائهة.

تبحث الريح المجروحة عن زورق طريد، كما يبحث قعر البحار عن زورق موت، كلّ يبحث عن فريسة يبتلعها. كأنّ الجوف يبحث عن “يونان” جديد، يلفظه حيًّا ليكون العالم الجديد الطالع من بطن الماء معمّدًا بالضياء، بالطهر الذي لا يدركه إلّا من أبحر في توبته ونصب خيمته في عراء الملح ليرث ميناء الرجاء.

غدًا تهدأ ملوحة القلق، وتستقرّ النفس المبحرة في تيهها. يصير الأفق مرسى الأحلام، حيث يلتقي طرف السماء، فإذا تصالحا ختم قوس قزح لقاءهما، وإذا تعاتبا غسل ندى الصباح زعلهما، وألبسهما مطر النهار عباءة المحبة.

غدا سنلتقي على أرصفة البحر الضائع، نقف أمام ركام يعرفنا ولا نعرفه، بعضه مما كان منا، وبعضه مما رماه قعر البحر من بقايا ركام الآخرين. ألعلّ كلّ ركام مشروع بناء، أو كلّ بناء مشروع ركام؟ إلّا نحن، نبقى في وجه الريح كسنديانة لا تئن، إلى أن يصير الماء طوفانًا جارفًا يقودنا إلى الأرض الجديدة، والسماء الجديدة، والرصيف البحريّ المالح القائمة فيه مراسينا.

***

*اللوحة للفنان زياد غالب

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *